" إن المجتمع هو مصدر
كل سلطة أخلاقية "
- فند هذه الأطروحة -
استقصاء بالرفع
طرح المشكلة:
الإنسان كائن اجتماعي، والحياة الاجتماعية تقتضي
نوعا من القوانين التي تنظم حياة الناس وسلوكاتهم، وهذا ما يتطلب نوعا من الأخلاق لتحدد
الخير والشر ومعايير الحكم على السلوك من جهة القبول أو الرفض، غير أن أساس ومصدر السلطة
الأخلاقية تشكل موضوع اختلاف بين الفلاسفة، فمنهم من اعتبر القيم والسلطة الأخلاقية
مصدرها العقل، لأن المعروف أن الإنسان كائن عاقل، وقيمته في عقله، يميز به ويحكم به
ويفرض الإلزامات الأخلاقية، لكن هناك من يرفض هذه الفكرة ويناقضها ويرجع كل سلطة أخلاقية
و كل القيم إلى المجتمع لأنه الوسط والوعاء الذي يكتسب فيه الفرد كل خصائصه الإنسانية
والأخلاقية. غير أننا نشك في هذا الرأي لأن المجتمع لا يتكون إلا بعقول أفراده. وهذا
ما يدفعنا للتساؤل: كيف يمكن تفنيد هذه الأطروحة القائلة: أن المجتمع هو مصدر كل سلطة
أخلاقية وبالتالي إبطالها ونفي مشروعيتها؟
في محاولة حل المشكلة :
عرض منطق الأطروحة:
إن حقيقة هذه الأطروحة تتناول مشكلة المصدر الذي تستند إليه
القيمة الأخلاقية، وبالتالي تستمد سلطتها وقوتهما وإلزاميتها وتصرح هذه الأطروحة أن
المجتمع ه و مصدر القيم الأخلاقية ومنه تستمد سلطتها وإلزاميتها وتستند هذه الأطروحة
إلى مجموعة مسلمات أهمها: أن المجتمع هو المصدر الأساسي في تكوين حياة الأفراد الذهنية
والنفسية والدينية والجمالية والأخلاقية. من هنا كانت القيم الأخلاقية مصدرها المجتمع
يضعها كقیم متعالية ويفرضها على أفراده.كما أن المجتمع هو اساس تحديد معايير الخير
الأسمى عند الأفراد وبالتالي فهو مؤسس الحياة الأخلاقية وما تتصف به من سلطة وقهر وإلزام.
ويؤكد الاجتماعيون وبالخصوص "إميل دوركايم" و"ليفي بریل" أن الأخلاق
وقائع اجتماعية لكونها إلزامات وضعها المجتمع وعلى الأفراد الامتثال لها، والخضوع بالطاعة،
يقول "دوركايم": "ليس هناك سوى قوة أخلاقية واحدة تستطيع أن تضع قوانين
للناس هي المجتمع". فالقيم الأخلاقية ظاهرة اجتماعية بالضرورة، ومن المحتمع تأخذ
سلطتها وإلزاميتها، يقول "دوركايم": "فالمجتمع ليس سلطة أخلاقية فحسب،
بل كل الدلائل تؤكد أن المجتمع هو النموذج والمصدر لكل سلطة أخلاقية، ولا بد أن تكون
أخلاق الفرد هي الأخلاق التي يتطلبها المجتمع بالضبط".
نقد أنصار الأطروحة:
إن أنصار الأطروحة وهم الاجتماعيون وعلى رأسهم "دوركايم" و"ليفي
بریل" وغيرهم بحدهم قد ألهوا المجتمع وجعلوه مصدرا لجميع السلطات الأخلاقية
رغم أن المجتمع في حقيقته ما هو إلا إنجاز يؤسسة أفراده، فالفرد هو مادة العلاقات الاجتماعية،
يقول "سبنسر": "إن طابع الكل يحدده طابع الوحدات
المكونة له". فثمة أفراد عباقرة يستطيعون اختراع أشياء وأفكار جديدة، فتنتقل
في الناس، ح تى تنتشر وتعم المجتمع، وبذلك يعتنقها المجتمع ويقرها، كما انتقد بعض المفكرين
الترعة الاجتماعية وما ذهبت إليه، وأكدوا أن القیم الأخلاقية هي ثمرة العقل الإنساني،
فالعقل هو الذي يدرك الخير والشر، ومعنى الفضيلة والرذيلة بغض النظر عن الحياة الاجتماعية.
لأن الأخلاق کالجوهرة لها من الخصائص ما يجعلها مرغوبة ومطلوبة ولها من الجاذبية ما
يأسر من يطلبها، وهذا المعنى لا يختلف فيه العقلاء منذ قديم الزمان. فسقراط مثلا كان
يظهر أنه هو حامل القيم الأخلاقية، أما مجتمعه فكان علی العكس من ذاك . مما يعني أن
السلطة الأخلاقية ليست حقيقة اجتماعية بل لها دلالات وأبعاد أخرى تحكمها.
إبطال الأطروحة:
إن هذه الأطروحة التي تجعل من المجتمع مصدر
كل سلطة أخلاقية و بالتالي جعل المجتمع منبع كل القيم الأخلاقية تتجاهل أن الواقع الاجتماعي
يعيش ضرورة مستمرة وتغير دائم، وبالتالي لا بقاء له على حال. نتيجة ما يعترضه من الظروف
والأحوال في المعاش والصراع، والتخلف والتطور وهذا يعني أن الأخلاق تصير لا استقرار
لها وبالتالي فقدان سلطتها وقيمتها. كما أن لكل مجتمع عاداته وتقاليده وثقافته، وهذا
ما يجعل من الأخلاق نسبية و مغلقة على بيئتها ومجتمعها الذي تكون فيه، مما يعن فقدان
مطلقيتها وإلزاماتا القاهرة للمجتمع. زيادة على هذا نجد أن ربط الأخلاق بالجماعة قد
يؤدي إلى فساد الأخلاق وزوالها، فبعض الأنماط الاجتماعية قد تكون فاسدة وغير أخلاقية
كالزواج بالمحارم عند بعض الأقوام مثلا، كما أن المجتمعات الطبقية تطرح مشكلة: بأي
الأخلاق نأخذ فلكل طبقة قيمها؟ و كل هذا يؤكد أن المجتمع لا يمكنه أن يكون مصدرا لكل
سلطة أخلاقية، لأن القيم الأخلاقية قد تكون ملزمة بطبيعتها وهي التي تضبط سلوكات أفراد
المجتمع وتنظم أحواله، وليس العكس.
حل المشكلة نستنتج أن المجتمع بالرغم من تأثيره على الأفراد، إلا أنه ليس هو منبع
الأخلاق والسلطات الأخلاقية، وبالتالي نحكم ببطلان الأطروحة و كذبها.
تحميل المقالة على شكل PDF هنــــــا