كذب بالبرهان الأطروحة القائلة:
" إن الحادثة التاريخية يصعب دراستها بطريقة
علمية موضوعية "
استقصاء بالرفع
طرح المشكلة:
إن
الإنسان كائن تاريخي، وتاريخيته لا تقتصر على تذكر الماضي وتسجيله، بل هو الذي
ينشئ هذا التاريخ ويصنع أحداثه، من هنا كانت الحادثة التاريخية، حادثة إنسانية
ماضية يدرسها علم التاريخ دراسة منظمة تقوم على أسس علمية ومنهجية هدفها كشف
وتفسير ماضي الإنسان لهذا شاع بين الناس أن التاريخ هو العلم الذي يدرس الحوادث
البشرية الماضية، وبالتالي إمكانية دراستها بطريقة علمية موضوعية. لكن هناك من
يرفض هذا الرأي ويعتقدون أن الحادثة التاريخية لا يمكن أن تكون علما ومن المتعذر
أن تدرس بطريقة علمية موضوعية لأنما مجرد أحداث وروایات ماضية، لا تتكرر ولا يمكن
ملاحظتها، أو وضع قوانين لها، وبالتالي استحالة إخضاعها للدراسة التجريبية. غير أن
هذا الموقف يبدو أنه غير مؤسس على يقين، مما يدعونا للشك في هذه الأطروحة. فكيف
يمكن تکذیب هذه الأطروحة وإبطال مشروعيتها؟
في محاولة حل المشكلة:
و عرض منطق الأطروحة:
إن
التاريخ ليس جديرا أن يسمى علما، لأن الحوادث التي يدرسها لا تشبه الظواهر الأخرى،
ولا يمكن أن تدرس بطريقة علمية موضوعية، ولا يمكنها أن تخضع للمقياس التجريبي.
وتقوم هذه الأطروحة على أساس المسلمة التي تقول أن الحادثة التاريخية حادثة ماضية،
لا يمكن ملاحظتها مباشرة، كما أنها حادثة فريدة لا تتكرر أبدا، و بالتالي اسد حالة
التدريب عليها. ويؤكد أنصار هذه الأطروحة أن دراسة الحادثة التاريخية تواجهها وتقف
أمامها الكثير من العوائق والصعوبات التي لا يمكن تجاوزها علميا، فالمؤرخ إنسان
والحادثة التاريخية جزء منه ويعيشها باعتبارها ظاهرة إنسانية، وبالتالي لا يستطيع
أن يقف منها موقف الحياد، فهو يخضع لعواطفه، وثقافته، وعقيدته ووطنيته،
وإيديولوجيته، مما يجعل من الموضوعية العلمية أمر غير ممكن، فنقد المؤرخين البعضهم
البعض، واختلافهم حول موضوع واحد دليل على ذلك. كما أن الحوادث التاريخية ظواهر
ماضية، لا يمكن إعادتها إلى الحاضر ، أو القيام بعزلها عن ظروفها المتشعبة،
وبالتالي يستحيل التجريب عليها، وتنعدم القوانين و تتبوأ کسمات جوهرية للدراسة
العلمية. و فوق هذا فهي حادثة لا تخضع لمبدأ الحتمية التي تعني ثبات الشروط
والأسباب، في حين هذه الحادثة شروطها وأسبابها ليست ثابتة، لأنها مرتبطة بالإنسان
وتغيرات ظروفه، فما كان بالأمس سبب لم يعد اليوم كذلك. وبناء على هذه الخصائص يصعب
أن تتم الدراسة بروح علمية موضوعية.
نقد موقف أنصار الأطروحة:
إن
هؤلاء الأنصار الذين عارضوا علمية الحادثة التاريخية وعدم إمكانية دراستها بطريقة
موضوعية يبالغون في تصور الصعوبات المنهجية التي تعوض الدراسة في التاريخ لأن كل
الدلائل تؤكد أن المنهج التاريخي أثبت علمية في الدراسة انطلاقا من مرحلة جمع
المصادر والآثار، مرورا إلى تحليل المصدر والتحقق منها ونقدها، و انتقالا إلى
مرحلة تركيب الحادثة وإعادة بنائها من جديد، وتصنيفها وترتيبها زمنيا، وصولا إلى
مرحلة التفسير والكشف عن الأسباب التي أوجدت الحادثة، وهذا ما أوصل المؤرخين إلى
نوع من الاتفاق حول الكثير من المسائل التاريخية بناء على قرائن علمية تؤكدها،
لهذا قال "ابن
خلدون": "إن
النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر، أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى
تبين ص دقه من كذبه".
فالحادثة التاريخية لا يمكن أن نخرجها عن نطاق
الدراسة العالمية الموضوعية لأما معرفة منظمة تعنها، مجموعة من المناهج المختصة
وتفترض مواقف للبحث والنظر والتمحيص بأمانة ونزاهة، وروح نقدية، فالباحث في هذا
الميدان لا يفحص بالمجهر أو المرصد، ولكنه يسلح بالوعي والحذر والتركيز على
الموضوع بوسائل التحليل العلمي والانتقاء الموضوعي واعتماد المقارنة التاريخية،
فقد تمكن وفق هذا "مارك بلوخ"
من
دراسة تاريخ المجتمعات الإقطاعية في فرنسا وانجلترا وألمانيا... ووصل إلى استنتاج
أن الاقتصادي الزراعي يؤدي ضرورة لقيامها كلها.. وأن نمو التجارة والصناعة
التقليدية عامل يؤدي إلى زوالها. وقد أكد "ابن خلدون"
علمية
التاريخ وأحداثه بقوله: "إذ هو في ظاهره لا
يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر و
تحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو
لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق".
وهذا
ما يكذب الأطروحة التي تنفي الدراسة العلمية الموضوعية عن الحوادث التاريخية.
إبطال الأطروحة:
إن هذه
الأطروحة واجهتها انتقادات شديدة، لأن الواقع يؤكد أن الفرق بين الحادثة التاريخية
وغيرها، يعود في الأساس إلى طبيعة الحادثة وخصوصياتها، وهذا ما يقتضي تكييف
المنهج، ووضع آليات تجريبية تنسجم و خصوصیات الحادثة التاريخية، وليس رفضها
تجريبيا. ثم إن الذاتية كعقبة في الدراسة، قد تكون حافزا للباحث ، للحذر في دراسته وأحكامه، ودافعا لاتخاذ
الاحتياطات اللازمة التي تقیه مزلة الوقوع في الذاتية، كما أن تطور المنهج
التاريخي قلل من شأن هذه الصعوبة ومكن للموضوعية. كما أن انعدام الملاحظة المباشرة
فهذا لا يوقف العلمية والدراسة، فيمكن اعتماد الملاحظة غير المباشرة كما هو الحال
في بعض العلوم الفيزيائية، فنحن لا نعرف الإلكترونات في الذرة إلا من خلال آثارها.
فلما نلغي هذا في التاريخ و حوادثه، وأما من ناحية التجربة المخبرية فيمكن تعويضها
بأساليب أخرى شبيهة بالأسلوب التجريبي المهاري،
وهو أسلوب المقارنات التاريخية والذي لا يقل دقة وموضوعية. وكل هذا يؤكد إمكانية
دراسية المحادثة التاريخية علميا وموضوعيا. كما أن الحادثة التاريخية لها واقعا و
موضوعا معينا بزمان ومكان، وهذا ما يمكن الباحث من الوقوف على الأسباب والشروط
الحقيقة لها، وهذا ما أكده الكثير من المؤرخين كابن خلدون"
و"رينان"
و
"فوستال دي كولانج" .
حل المشكلة :
نستنتج
أن الدراسة العلمية الموضوعية للحوادث التاريخية ممكنة، نتيجة تطور مناهج الدراسة
ووسائلها، وكذا الاستعانة بنتائج العلوم الأخرى، لدعم الروح العلمية في الحادثة
التاريخية، وهذا ما يجعلنا نحكم بفساد الأطروحة وكذبها.