هل يمكن تبرير استعمال العنف
بحجة تغيير الواقع ؟
الطريقة : جدلية
طرح المشكلة:
يعتبر "العنف" من الظواهر الاجتماعية، التي تتسم بالتعقيد والتداخل،
وتعدد صوره، وتنوع دوافعه وأسبابه، وتعدد مستويات ممارسته، فالعنف موضوع متعدد
الأشكال، يبرز في كل مناحي الحياة: في المدرسة، والجامعة، والبيت، وفي الأندية
الرياضية، وفي الأحزاب والسياسة ... سواء كان هذا العنف معنويا يمس القیم الحيوية
للإنسان، أو كان عنفا ماديا كالحروب والاعتداءات والقتل والضرب والتخريب وأشكال
السيطرة الاقتصادية وغيرها... وكأن الممارسة العنفية خاصية من خصائص النوع
الإنساني .... و يزداد هذا السلوك العنفي حدة وانتشارا إذا ارتبط بواقع فاسد
كالتردي الاقتصادي، والتفكك الاجتماعي وانتشار المظالم، والخيار القيم، وتقيد
الحريات. كلها عوامل تدفع بالبعض لتسويغ العنف، وإيجاد مقاربات لتبرير استخدام س
لوك العنف كأسلوب للتغيير ورفض الواقع وإيجاد بدائل جديدة. وهنا نتساءل: هل يمكن فعلا تبرير استعمال العنف بحجة رفض الواقع وتغيير
الأوضاع؟ و هل سلوك العنف أسلوب سوي للتغيير والبناء؟
في محاولة حل المشكلة:
عرض الأطروحة (الموقف الأول):
لقد قال "سبينوزا": "إن الأفراد هم في الظروف الطبيعية
في حالة عداء"
واعتقد "توماس هوبس" أن الإنسان يميل دوما إلى الصراع مع أقرانه من البشر
مدفوعا في ذلك إما بالبحث عن المنفعة أو دفاعا عن أمنه أو طمعا في المجدا... طالما
لا توجد سلطة مشتركة يحترموها فإنهم يصبحون في وضع شبيه بحالة حرب، خاصة إذا
انتشرت المفاسد في الواقع، وساد مناخ النزاعات والصراعات السياسية والتسلط
الدكتاتوري وتقييد الحريات وتكميم الأفواه.. وتفاقم المشاكل الاقتصادية، وغياب
العدالة بين الأفراد وانحطاط القيم الأخلاقية والثقافية الفاضلة، وتحكمت الأهواء
النفسية ونوازعها العدوانية في الأفراد.. مما يعني اختلال الواقع وفقدان توازنه و
فساده، وتفكك علاقاته ... لذا وجب العمل على تغييره باعتماد العنف وكل وسائل
الصراع، يقول "روسو": "ليس لنا فقط، بل من الواجب أن نثور إذا اقتضت الضرورة
ذلك. فهناك نوع من الأخلاقية تدعونا إلى حمل السلاح في أوقات ما".
ويذهب الكامو" إلى أبعد من هذا في اعتماد
العنف كأسلوب التغيير الأوضاع فيقول: "إن الرجل
الثائر هو الرجل الذي يقول: "لا"! وهذا يعني أن الأمور تفاقمت، وزادت في
التدهور، وأن هناك حدودا يجب الوقوف عندها".
كما نجد أن
الفلسفة الماركسية تؤمن أن التغيير في النظام الاجتماعي، وتولد نظام اجتماعي جديد
لا يمر إلا من خلال استعمال العنف الاجتماعي لكسر الاستغلال والطبقية،
واللامساواة، وفائض القيمة في إطار حركية تفاعل التناقضات. يقول
"أنجلز": "إن العنف يولد مجتمعا
جديدا"، ويؤكد زعماء الماركسية أنه إذا كانت السياسة هي التعبير
الأساسي للمصالح الاقتصادية، فإن العنف بدوره هو التعبير الأكبر للعلاقات السياسية
ووسيلة تحقيق السياسة نفسها، باعتماد أشكال الضغط، والعصيان ... فالرجال يصنعون
تاريخهم بأيديهم بالاحتكام إلى الصراع والعنف. و على هذا فالعنف قد يكون وسيلة
لاسترجاع الحقوق والدفاع عن المبادئ والقيم المغتصبة، ودفع الظلم، بل قد يكون
ضرورة لمواجهة المعتدين والمحتلين وإلا حکم على الإنسان بالجبن والخيانة. لهذا
يقول "ماوو": "... والعنف لا تبرره الغاية السامية فقط، وإنما تبرره
أيضا الدفاع عن النفس". و عليه نحكم مع هؤلاء أن العنف ضرورة من أجل
التغيير ورفض فساد الواقع.
النقد :
* غير أن
سلوك العنف مهما كان الاجتهاد في تبريره وقبوله، فإنه يبقى س لوك سلبي، وظاهرة اجتماعية مرضية، لا يجب الاتصاف
با. لأنها لا تنسجم مع القیم الرفيعة ومع الكرامة الإنسانية. فالعنف لا يولد إلا
العنف ولا يقابل إلا به. وهذا من شأنه أن يفسد الأمور، ولا يصلحها، بل يؤدي إلى
تحطيم العلاقات لما يفرزه من عداء وتوتر قد ينفجر في شكل أزمات حادة يصعب التحكم
فيها.
- كما أن
تبريره بحجة فساد الأوضاع والعمل على تغييرها، هو تعبير أولي ع ن مسلمة اعتبار
الآخر خطرا لا بد من مواجهته، والتصدي له، وهذا يدل على وجود طابع عنفي وإجرامي
مسبق، ونیات مبيتة، لا بد من رفضها والتصدي لها، لأنها قد تصير حجة يتستر وراءها
كل المجرمين وكل المتعطشين للفساد وسفك الدماء، من هنا وجب رفض منطق العنف مهما
كانت أشكاله.
ه نقيض الأطروحة (الموقف الثاني):
إن الإنسان
مخلوق عاقل، ومكرم من الله تعالى لقوله : "و لقد
کرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير
ممن خلقنا تفضيلا" (الإسراء 70)، وهي نظرة تسمو بالإنسان إلى مستوى
التقدير، لأنه حامل القيم، وأنه لا يرضى أن يعامل كوسيلة، بل أن يعامل كغاية في حد
ذاتها، من هنا كان العنف كسلوك إيذائي باليد أو باللسان، بالفعل أو بالكلمة، سلوك
مرفوض، وغير مشروع ولا يجب تبريره أو اللجوء إليه، لأنه ظاهرة سلبية، وظاهرة مرضية
لا تنسجم مع الحكمة ولا مع القيم الإنسانية، وأن التعامل كما واعتمادها هو س قوط
بالإنسان إلى مرتبة الهوان أو أدنى من ذلك... على اعتبار أن الكثير من الدراسات
أثبتت أن الحيوانات لا تتصارع فيما بينها، ولا تأكل بعضها ولا تلجأ إلى العنف إلا
لضرورة بيولوجية أو دفاعا عن النفس، فكيف بالإنسان العاقل المميز؟ أليس من الأولى
به أن يعتبر من عالم الحيوان؟ أليس من الأولى أن يترفع بنفسه ع ن رذيلة العنف،
ويسمو عن الممارسة العنفية؟ أليس الأولى اعتماد الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن،
وترسيخ ثقافة التعايش، والتعاون؟ لهذا كله يعلن "غاندي"
في قوله: "فاللاعنف هو قانون الجنس البشري،
كما أن العنف هو قانون البهيمة".
و على هذا
يصير اللاعنف ثقافة و تربية و حب إشاعتها بين الأفراد، ونضالا حيويا ضد كل أشكال
الضغط والعنف. فاللاعنف لا يعد، تراجعا ولا تخاذلا وحبنا، وإنما هو تعبير عن وعي
الذات للموقف، وإمكانية التحكم فيه، وتوجيهه نحو التكيف الاجتماعي الذي يحارب
الشر، ويقطع الجذور التي تغذيه، فاللاعنف إستراتيجية حكيمة للتحكم في المواجهة،
تليق بقيمة الإنسان وقدره. و لنا في حياة النبي و وسيرته أرقى النماذج السلوكية في
رفض العنف، والتعامل بالرفق واللين، والتأليف بين القلوب بالحسن، والارتقاء
بالإنسان إلى حبه لأخيه الإنسان مثل ما يحب لنفسه. قال : "من يحرم الرفق يحرم الخير كله" (رواه مسلم)، وفی عن استخدام و حق الإشارة إليه قال: "من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه
حتى ينزع، وإن كان أخاه لأبيه وأمه". (رواه مسلم). ولهذا كله فالعنف مرفوض وغير مشروع مهما
كانت الظروف والأحوال.. لأنه لا يصلح كطريق للتغيير والتجديد، فضره أكثر من نفعه.
النقد :
- لكن
ثقافة اللاعنف قد تكون ذريعة لأصحاب النفوس الماكرة و المتمردين الإشاعة الاضطراب
والتراعات داخل المجتمع لأنه لا يوجد من يردعهم، لذلك لا بد من مواجهتهم بنوع من
العنف. كما أن مصالح الناس وحمايتها تحتاج دائما إلى نوع من القوة والعنف لأجل
الحفاظ عليها، وصيانتها من أصحاب الطبائع الفاسدة، وإلا تنازع الناس واقتتلوا فيما
بينهم، ولهذا ظهرت سلطة الدولة كقوة لتنظيم ذلك.
التركيب:
إن اعتماد أسلوب العنف كطريقة لتغيير الأوضاع
والثورة على الواقع الفاسد، هو أمر مرفوض وغير مشروع على الإطلاق لأنه سلوك عدواني
تنجم عنه عواقب من الصعب التحكم فيها بين أفراد المجتمع الواحد أو بين الدول، لذلك
لا بد من اتخاذ أساليب حضارية في فهم الواقع وتغييره، كثقافة الحوار، والأخذ
والمطالبة، وكذا أسلوب المعارضة الإيجابية القائمة على العمل والإنتاج، والتحكم في
الواقع وآلياته المادية والبشر بود و تو محيها المستقبل الأفضل بلا نسر عيب ولا
أنانية . فول الأدوار التربوية والتعليمية وتنشيط وسائل الإعاسلام والتثقيف لزرع
ثقافة السفير البناء، وبناء الوعي الفردي والجماعي الذي يؤسس للتغيير ويخدمه.
حل المشكلة :
وعليه
نستنتج أن حركة التنافر والتجاذب التي تحكم حياة الناس قد تطغى عليها مظاهر العنف
واللاتسامح، فتفتر العلاقات بين الناس ، لكن حكمة الإنسان وعالمين، تكمن في قدرته
على مقابلة العنف باللاعنف وأن طريق البناء والتغيير لا تكون برفض الآخر، وتسليط
العنف عليه، بل التغيير الرفيقي هو الذي يقوم على احترام الإنسان وفق مبادئ الإخاء
والعدل.
تحميل المقالة على شكل PDF هنــــــا