هل التواصل مع الغير أساس كاف لمعرفة الأنا
وإثبات الذات ؟
الطريقة جدلية
طرح المشكلة:
. إن الإنسان كما يقولون- حيوان اجتماعي ،
وليس في استطاعته أن يحبس نفسه، لأن حقيقة "الأنا" لا يمكنها أن تعيش
إلا من خلال علاقتها بأنا الغير، فالإنسان يحيا مع الآخرين و بالآخرين وللآخرين،
وليس ثمة ذات بدون الغير، سواء كان هذا الغير هو الخصم الذي أصارعه وأتمرد عليه،
أم كان هو الصديق الذي أتعاطف معه وأنجذب إليه، وأتواصل معه، وبناء على هذا
نتساءل: هل التواصل مع الغير ومشاركته أساس كاف لمعرفة
الأنا، وإثبات حقيقة الذات؟ بمعنى آخر: هل معرفة الذات لذاتها متوقف على التواصل
مع الغير؟
في محاولة حل المشكلة
عرض الأطروحة (الموقف الأول):
إن "الأنا" الإنسان ليس منغلق على
ذاته، بل يعيش صيرورة الحياة ومسايرة الوجود، كما أنه يعترف أنه ليس
"الأنا" الوحيد، بل معه "الأنا" الآخر، الذي يشاركه الوجود،
وهذا ما يقتضي التفاعل معه والاعتراف به والتواصل معه، مما يعني أن
"الغير" ضرورة لوجود "الأنا" وأساس حقيقي لمعرفة وإثبات
حقيقتها. لهذا يؤكد "سارتر": "لكي أحصل على حقيقة ما عن ذاتي، لزمت واسطة الآخر،
فالآخر ضروري لوجودي من جهة، قدر ما هو ضروري من جهة أخرى لتحصيل المعرفة التي لي
بذاتي". فالوعي بالمماثلة والتشابه بين "الأنا" و
"الآخر" والإحساس المشترك في | الوجود، يدفع للتواصل والحوار، وتبادل
الخبرات والتأثيرات، ومعرفة كل "أنا"
النفسية، ول"الآخر" والتوافق معه،
بقول "سارتر": "إي في حاجة إلى وساطة
الغير لأكون ما أنا عليه" وكأن الغير شرط لمعرفة الأنا لنفسه، فلا شيء
أنفع للإنسان من الإنسان على حد قول "سبينوزا". ويؤكد
"برغسون" أن التواصل مع الغير يعتمد غالبا على اللغة كإطار لتبادل
الأفكار المشتركة والتعبير ع ن الأغراض، وبناء العلاقات والتعرف على ذواتنا وعلى
الغير. يقول سارتر": "إننا لا نكشف أنفسنا في عزلة ما، بل في الطريق، في
المدينة، وسط الجماهير، شيئا بين الأشياء". كما يعتقد "ماکس
شیلر" أن التعاطف والحب ومشاركة الغير مشاعرهم وآلامهم وأفراحهم، يعبر عن
تواصل إنساني حقيقي يمكن لمبدأ الوجود الواحد، وإقرار منطق التعادل بين
"الأنا" و"الغير" واعتراف کلاهما بالآخر كضرورة لمعرفة ذاته
... لأن المشاركة العاطفية عمل قصدي، نزوعي يتجه نحو الغير. وعلى هذا كانت كل ذات
سواء أرادت أو لم ترد، تتواصل مع مجتمعها (كغير) الذي تعيش فيه، وتأخذ منه لغته
التي تتكلم بهما، ومعاييره التي تدافع عنها، وأهدافه التي تعمل من أجلها، وعواطفه
التي تحملها في صدرها من هنا كان التواصل أساس حقيقي يمكن لمعرفة الأنا وإثبات
حقيقة الذات. - لكن مهما كنا نحيا في المجتمع، وتحقق ضربا من الاتصال بيننا وبين
الغير، ع ن طريق اللغة والتعاطف والمواقف المشتركة، ولكن لا يمكن لأحد أن ينفد إلى
أعماقنا ويعبر عن حقيقتنا ويفهمها، كما أن الآخر أقصى ما يقدموه للأنا قد لا يكاد
يتجاوز العلاقات الظاهرية، والمجاملات اللفظية السطحية، كما أن الغير لا يمكن أن
يشاركنا عواطفنا حقيقة مهما كان قريبا منا، لأنها مشاعر خاصة لا يحياها إلا
صاحبها. ولذلك مهما كان للتواصل من أثر فإنه لا يكفي لمعرفة الأنا وإثبات حقيقة
الذات، بل إن الغير قد يصير مواجها للذات ومحاربا لها.
نقيض الأطروحة (الموقف الثاني):
إن
علاقة "الأنا" "بالغير" لا تقوم على أساس التواصل، بل الواقع
يشهد أنها تقوم على أساس التناقض والصراع والتصادم والمواجهة، لذلك على كل ذات أن
تعرف نقيضها، لتعرف حقيقتها، وتثبت وجودها بالفعل، ماذا يقول "مسان دو بيران": "يفرض الأنا نفسه من خلال معارضته للآخرين".
ويؤكد "هيجل" أن الشعور بالأنا يقوم على مقابلته بشعور
الغير كنقيض وعندئذ يتعين على كل من الشعورین أن يتغلب على الآخر، والدخول في صراع
عنيف يحاول فيه كل منهما أن يفرض نفسه على الآخر كموضوع رغبة وانتصار أحدهما هو
زوال للآخر. يقول "هيجل": "إن الإنسان مستعد لأن يخاطر بحياته،
ويقضي بالتالي على حياة الآخر، كي ينال اعتراف الآخر، ويفرض نفسه كقيمة عليا على
الآخر، فإن مواجهتهما لا يمكن أن تكون إلا صراعا حتى الموت".
وهذا ما يوضحه "هيجل" في جدليته الشهيرة المعبرة عن علاقة التناقض
التي تجمع "السيد" "بالعبد"،
فالسيد لا يكون س يدا إلا بإجبار عبده على الاعتراف به، ذلك العبد الذي فضل التخلي
عن حريته بدل المخاطرة بحياته، وبذلك يتخلى عن صفته كإنسان، أو يخاطر العبد،
وينخرط في العمل ويسخر قدراته للتأثير في الأشياء وبمرور الوقت ينسى السيد طريقة
التأثير في الأشياء ويصير تابعا لعبده. فالصراع هو منطق الوجود وكل كائن يحاول
إثبات ذاته على حساب الآخر كمنازع ومواجه يسعى لتحطيم الذات والقضاء عليها، وسلب
حريتها، يقول: "سارتر": "إن وجود الآخر على
مسرح حياة، لا يعني إلا شيئا واحدا، هو أنه وجد لكي يسلبني حريتي... فالجحيم هو
الآخرون". و على هذا فمعرفة الذات وإثبات حقيقة الأنا تقوم على
التناقض بين الأنا والآخر كل يسعى لإثبات ذاته باعتماد الصراع بكل أنواعه.
النقد
:
- لكن هذا الأساس لا يسعى لمعرفة الذات، بل
هو دعوة للصراع وإثارة الفتن والقضاء على الغير، وفق غريزية حيوانية فيها البقاء
للأقوى. كما أن كرامة الإنسان وقيمته، وسمو عقله تدعوه للتوافق مع الآخر، ووعي
ذاته وقيمتها، وليس العمل للقضاء على أخيه. ثم إن العلاقات الإنسانية لا تؤسس على
منطق الغالب والمغلوب، بل تقوم على مبدأ التعادل في الاعتبار، والعيش المشترك،
والمصير الواحد وهذا ما يظهر فساد هذا الأساس في معرفة الذات.
التركيب :
إن معرفة الأنا و إثبات حفرفية الذات لا
تتوقف على أساس التواصل وحده رغم اعتباره من الأبعاد الي تؤسس لمعرفة الذات
وانفتاحها على الغير، فهناك أيضا: أساس النقيض المهذب الدافع إلى التنافس التريه،
وإثبات الذات الإيجابية عن طريق ما تبدع، وليس بالقضاء على الآخر، إضافة إلى مبدأ
الوعي المصاحب للذات في كل أحوالها والذي يعتبر المحرك لكل تلك الأسس مجتمعة.
حل المشكلة :
الأنا الإنساني متشابك الأبعاد ويحمل الكثير من
المتناقضات والمعرفة الحقة للأنا تتأسس على وعي وتذيب تلك الأبعاد والمتناقضات في
إطار إنساني وأخلاقي سواء كان تواصل أو تناقض ومغايرة
تحميل المقالة على شكل PDF هنــــــا