إن وجود الحرية
كشرط تؤسس لوجود المسؤولية كمشروط
فند هذه الأطروحة
استقصاء بالرفع.
طرح المشكلة :
إذا كانت المسؤولية هي تحمل الفرد لنتائج أفعاله
أخلاقيا وقانونيا، فإن هذا يجعل من الإنسان كائن مکلف و مسؤول في كل الأحوال
والظروف، فالأب مسؤول عن تربية ابنه، والسائق مسؤول عن عربته، والوزير مسؤول عن
عمله... فالكل مسؤول والقضية ثابتة ولا يرفعها عدم وجود الحرية. لكن هناك فكرة
تناقضها يعتقد أصحابها أن المسؤولية لا تتم ولا تتحقق إلا إذا توفر شرط الحرية،
والاختيار بين الأفعال، حتى يتحمل الإنسان نتائج أفعاله، وإلا سقطت المسؤولية
وصارت لا قيمة لها، فهي تثبت بثبوت شرطها وترفع برفعه. غير أن فكرة الحرية هذه من
الصعب إثباتها والتأكد من وجودها عند الإنسان لارتباطه بالكثير م ن الأسباب
والدوافع، مما يجعلنا نشك في صحة هذه الفكرة. فكيف يمكن
تفنيد هذه الأطروحة وإبطالها؟
في محاولة حل المشكلة:
عرض منطق الأطروحة:
يعتقد أنصار هذه الأطروحة أن وجود المسؤولية
وقيامها، وإثبات مشروعيتها، ليتحمل الإنسان تبعات أفعاله، يتطلب بالضرورة وجود
الحرية كشرط لازم لها، فلا مسؤولية إلا إذا أثبتنا قضية الحرية ووجودها عند
الإنسان، لنبرر وجود المسؤولية بعد ذلك كم
شهر و دل اران و مسلمة هؤلاء تقول: أن الفرد مسؤول عن كل ما يفعل إذا كان حر في
أفعاله و اختیاراته، لأن الشخص المكره لا يستطيع تقدير نتائج أفعاله ولا يتحمل
تبعاتها، وبالتالي لا قيمة للجزاء هذا يؤكد أنصار "المعتزلة" أن الإنسان
مكلف ومسؤول الأنه يمتلك الحرية والقدرة على الاختيار بين الفعل أو الترك وفق
إرادته الحرة في خلق الأفعال، وعلى هذا يكون الجزاء يوم القيامة ثوابا أو عقابا
لقوله تعالى: "فمن يفعل مثقال ذرة خ يرا يره، ومن يفعل مثقال ذرة شرا
يره"، كما أن "كانط" يعتقد أن الواجب الأخلاقي وإلزاماته في أن
يفعل الإنسان الخير، وأن لا يفعل الشر وتحمل مسؤولية ذلك ، ينطلق من وجود مسلمة
الحرية ليكون للقواعد الأخلاقية قيمة و معن، لهذا فالشرير عندما يختار فعله بإرادة
حرة بعيدا عن تأثير الأسباب والدوافع فهو بحريته مسؤول ويتحمل تبعات فعله كاملة،
فالشرور الفاشية في العالم إنما هي نتيجة حرية اختيار .
إبطال الأطروحة:
لكن هذه الأطروحة وأنصارها واجهتهم الكثير من
الانتقادات من أهمها: أن المسؤولية التي تتأسس على شرط حرية الاختيار، يتعذر
تصورها في الواقع، لأن كل عمل يقوم به الإنسان تحدده مجموعة من الدوافع والأسباب
مهما كان نوعها... فالقول بالمسؤولية المشروطة بالحرية دائما هو نوع من تجاهل
الواقع الإنساني المليء بالعوائق والحتميات والقيود. والفعل الذي يكون مستقلا عن
كل إكراه يكاد يكون شبه مستحيل. فهل هذا يعني إسقاط المسؤولية وإلغاء الجزاء؟ كما
أن الأخذ بمنطق هذه الأطروحة يؤدي إلى إسقاط المسؤولية عن أشد الناس خطرا على
المجتمع وأمنه وسلامته كتجار المخدرات، ومحترفو الجريمة الذين يدفعه استعدادهم
الطبيعي وصفاتهم الوراثية للإجرام، مهما عظمت جرائمهم، لأهم مدفوعون إليها وليس
لهم اختیار کامل في ارتكابها.
لكن الناس العاديين والأكثر صلاحا إن ارتكبوا
خطأ فيتحملون المسؤولية وتضاعف لهم العقوبات بناء على ما يمتلكون من اختيار حر..
وهذا مخالف لمفهوم العدل ونظرة القضاء. كما أن الإنسان أحيانا بخملي في حق الغير دون قصد، ولا اختبار ولكن مع
ذلك يعتذر منهم، ويأسف لما فعل شعورا منه بالمسؤولية وتحمل تبعا لها، وقا، بصل
الحال إلى حد التعويض عن الأضرار المترتبة عن ذلك، مما يعني أن المسؤولية ثابتة ح
تى وإن لم يوجد شرط الحرية .
نقد منطق أنصار الأطروحة:
إن أنصار هذه الأطروحة الذين ينفون المسؤولية
بغياب شرط الحرية، هو هدم الحقيقة الإنسان وعلاقاته، لأن المسؤولية لا ترتبط في
وجودها بوجود شرط الحرية لأن المسؤولية تنصب أولا على الإنسان كخاصية يحملها، ثم
بعد ذلك ننظر إلى حرية الأفعال وتبعاما کموضوع قابل للحكم عليه بالخير أو الشر،
بالثواب أو العقوبة. ثم إن المدرسة الوضعية الحديثة في دراسة ظاهرة الجريمة
والمجرمين وعلى رأسها المبروزو" لا تصنف الأفراد إلى فئة مسؤولة وأخرى غير
مسؤولة بحسب حرياتهم، بل تجعل من الكل مسؤول مهما كانت الدوافع والظروف ولكن تختلف
النظرة إليهم بحسب ما يستحقون من جزاء (قصاص، علاج، توجيه تربوي...). كما أننا نجد
أن بعض رجال الدين وفلاسفة الأخلاق يعتقدون أن التكليف کمسؤولية يسبق الحرية و
يبررها، سواء كان التكليف ربانيا أو أخلاقيا. و بالتالي فالمسؤولية مشروعة وقائمة
حتى وإن غاب شرط الحرية.
في حل المشكلة :
و عليه نستنتج بطلان وفساد الأطروحة القائلة: "أن وجود الحرية كشرط، تؤسس الوجود المسؤولية كمشروط". لأن الإنسان يبقى مسؤولا عن أفعاله وتبعاتها ولا تنتفي
مهما غاب شرط الحرية ورفع، وكأن الإنسان كائن مسؤول أولا ثم ننظر بعد ذلك فيما
يختار ويصنع.
تحميل المقالة على شكل PDF هنــــــا
