إذا كان شرط
الحرية ناقص أو غير موجود، فهل هذا يرفع المسؤولية عن الإنسان ويلغي تبعات الأفعال
الطريقة جدلية
.
طرح المشكلة
إذا كانت المسؤولية تعي تحمل الإنسان لتبعات
أفعاله أمام القانون، وما يترتب علرها من نتائج مادية كانت أو معنوية، فإن هذه
المسؤولية تقتضي أن يكون صاحبها عاقلا ويمتلك حرية الاختیار کر کن ضروري لقيامها،
وشرط لازم لتحققها، مما يعني أن المسؤولية تثبت بثبوت شرطها الحرية - وترفع برفعه،
وهذا ما يدفعنا للتساؤل: هل غياب شرط الحرية أو نقصانه
يؤدي إلى رفع المسؤولية عن الإنسان، وإلغاء تحمل تبعات الأفعال؟
في محاولة حل المشكلة:
عرض الأطروحة (الموقف الأول):
إن المسؤولية لا تتم ولا تتحقق فعليا إلا بتوفر
شروطها، من حيث أن ص احب المسؤولية وجب أن يكون عاقل يميز بين أفعال الخير وأفعال
الشر، وأن يمتلك حرية الاختيار بين الأفعال، والقدرة على فعلها أو تركها... وعلى
هذا الاعتبار کان الإنسان لا يتمتع بحرية الاختيار جزئيا أو كليا - فإنه من المنطق
ومن الضروري رفع المسؤولية عنه، وعدم تحميله لنتائج الأفعال كاملة، وإلغاء تبعاتها
عنه... لأنه مقيد و ملزم و مدفوع إلى الأفعال وليس باختياره وإرادته الحرة. ومن
الظلم أن يتحمل المسؤولية أو أن يحاسب. لهذا يؤكد أنصار الجبرية وعلى رأسهم
"جهم بن صفوان" أن الله بإرادته ومشيئته قد حدد كل شيء، ما كان وما هو
كان وما سيكون لكل أفعال الخلق و مسيرة | الاول لا إرادة لأحد، ولا إختيار، ولا
قدرة على الفعل إلا بإرادة الله تعالى، فالله اور ان الأشياء والأفعال، و تنسب
الأفعال إلى العباد وإلى غيرهم على سبيل المجاز وأول إمكرمة الله، قضاء وقدرا. |
وبرر أصحاب الحتميات هذا الموقف بالقول: أن الإنسان خاضع لحتميات قاهرة ومحكوم بقوانين
كونية لا يمكنه الخروج عليها، وبالتالي
ليس مختارا فيما يقوم به م ن أمال فساو که پسير مقتضی حتمية فيزيائية هي عبارة عن
نظام ثابت من القوانين
وبحكم
الظواهر الطبيعية كلها، والإنسان جزء لا يتجزأ عن الطبيعة وظواهرها لذلك هو يخضع
لنفس النظام القانوني ويتحرك وفق أسباب و علل. كما أن هناك الحتمية الإبداعية التي
توجه الإنسان وتنشئة خاضعا في جميع أفعاله لإرادة المجتمع وإلزاماته ان لا يجب
الخروج عليها (عادات، تقاليد، دین، قوانين..)، أما الحتمية النفسية فترى أن
الإنسان محكوم في جميع أفعاله بمقلوباته النفسية، كالرغبات والأهواء والغرائز،
والدول والعواطف وجميع الانفعالات الكامنة في النفس... وبالتالي فهو دائما مدفوع
إلى الأفعال وليس حرا فيها. و من ثمة فلا يمكنه تحمل المسؤولية وتبعاتها. ومن
ناحية أخرى حتى وإن اعتبرنا الإنسان يمتلك إرادة التحرر من القيود کما يا هب أصحاب
الطرح الوضعي، فإن هذا يقتضي الاعتراف بوجود الحتميات والعمل بالتدرج على التحرر
منها وتجاوزها.. وهذا يؤكد عدم توفر شرط الحرية ونقصانه. ومن جهة أخرى لا توجد
ضمانة تؤكد التحرر وتحقيقه فعليا، فقد يبقى مجرد اولات، وعليه نحكم بأن الإنسان
مقید و فاقد لشرط الحرية و بالتالي لا يمكنه تحمل المسؤولية وتبعات الأفعال. لأنها
ليست نابعة من إرادته.
النقد :
لكن الأخذ
بهذا التصور الذي يرفع المسؤولية عن الإنسان بحجة أنه غير حر أو ناقص الحرية، هو
هدم لكل القوانين والقيم الإنسانية، وذريعة يلجأ إليها كل من سولت له نفسه فعل
الشر وظلم الآخرين. ومن ناحية أخرى إلى ماذا يحتكم الناس؟ مادام لا واحد يتحمل
المسؤولية والكل يرفض تبعات فعله مادام غير حر. وهو منطق لا يقبله عقل، وترفضه كل
دلائل
الواقع. ثم ما هي الحرية التي لا يحكمها
لسبب ، ولا يحرکها دافع؟ فهي هذا المعنى حرية غريبة عن طبيعة الإنسان، ويتعذر
تصورها وعليه لا يمكن رفع المسؤولية بناء على هذا المنطق الغامض، بل الراجح هو أن
الإنسان هو حامل المسؤولية في كل الأحوال...
نقيض الأطروحة (الموقف
الثاني):
إن الإنسان كائن مكلف بالطبيعة، ومسؤول عن
أفعاله وتبعاتها لأنه ينفرد عن الكائنات الأخرى بأنه كائن القيم، وحامل خاصية
الإرادة و بالتالي فالمسؤولية تقع وتسبق الحرية، ولا يختلف الأمر هنا بين الصغير
والكبير، ولا بين البالغ وغير البالغ والدليل على ذلك أنه ينظر إلى الطفل على أنه
مسؤول ويتحمل تبعات أفعاله في البيت، أو خارج البيت في المدرسة، أو في القسم... -
بغض النظر عن الأسلوب الذي نتعامل به في هذه الحالات لأننا نهني الطفل عند نجاحه،
ونثمن فيه السلوك الحسن والحلق الطيب، أو قد نوبخه ونزجره عند ارتكابه الأخطاء أو
القيام بأفعال السوء... كما أن الإنسان يتحمل المسؤولية وتبعات أفعاله عند إلحاق
أضرار بالغير، رغم أن الفعل لا إرادة لنا فيه، ولا حرية لنا في توجيهه. کالاصطدام
المفاجئ بأحد المارة دون قصد ولكن مع ذلك فنحن نعتذر له، ونرافقه إلى المستشفى
ونعوض نفقاته، وكذلك الحال في قضية القتل الخطأ، وما يترتب عليه من مسؤولية وتبعات
رغم أن الفعل لا حرية لنا فيه ولا إرادة... لهذا يؤكد رجال الدين وفلاسفة الأخلاق
أن التكليف کمسؤولية يسبق الحرية ويبررها سواء تكليفا ربانيا أو تكليفا أخلاقيا.
بغض النظر عن العوامل المختلفة التي تحيط بالمكلف، "مبدأ التكليف عند
المعتزلة، الواجب الأخلاقي عند كانط". فالمسؤولية تنصب على الإنسان أولا
كخاصية يحملها، ثم بعد ذلك ننظر إلى حرية الأفعال وتبعاتها كموضوع قابل للحكم عليه
بالخير أو الشر، بالثواب أو العقوبة... و من هذا المنظور صارت المدرسة الوضعية
الحديثة في دراستها للمجرمين، لا تصنفهم إلى فئة مسؤولة وفئة أخرى غير مسؤولة، بل
تجعل من الكل مسؤول عما فعل، لكن هناك من يستحق القصاص، وهناك من يستحق العلاج،
وهناك من يستحق التوجيه والترشيد... إلخ.
وعليه، فالمسؤولية ثابتة عند الإنسان
ولا يرفعها عدم ثبوت شرط الحرية أو نقصانه لأن شرط الحرية يظهر فقط إرادة الفعل
لتبرير الأحكام وتحقيق الإنصاف والعدل ولا تنفي المسؤولية.
النقد :
لكن جعل الإنسان مسؤول في كل الأحوال،
وتحميله تبعات أفعاله دائما، بالرغم من أنه تعبير عن قيمة الإنسان وعظمته، إلا أن
هذا قد يتحول إلى ذريعة لتبرير الظلم، والاستغلال انطلاقا من فرض المسؤوليات.
وتحكيم سلطة إرادة العقاب والتجريم دون النظر إلى نية الفاعل وقصده، وقدرته على
الاختيار. وهذا لا يتناسب مع مفهوم
العدل .
التركيب:
إن قيمة الإنسان في هذا الوجود، ككائن عاقل،
وحامل لخاصية القيم و معبر عنها، تجعله كائنا مكلف ومسؤول تجاه ذاته أو تجاه
الغير، انطلاقا من إدراكه لذاته الفاعلة وما يصدر منها، وما يترتب عن ذلك من
نتائج، سواء ثبت شرط الحرية أو نقص، لهذا نجد من بحثوا موضوع الحرية، ونفوه عن
الإنسان، أو توسطوا في ذلك، لم يرفعوا إطلاقا المسؤولية عن الإنسان، فهو دائما
يتحمل مسؤوليته تجاه أفعاله. لكن هذه المسؤولية كموقف أخلاقي من الأفعال، لا يجب
أن تتحول إلى جلاد على الرقاب... بل وجب أن تراعى فيها شروط تحكم حدود هذه
المسؤولية وتوجهها، كدوافع الفاعل ونيته، وقدرته على الاختيار بين الأفعال بعيدا
عن الإكراه والضغط، وهذا ما يؤسس لتحقيق العدالة فضيلة إنسانية .
في حل المشكلة :
و عليه نستنتج أن عدم وضوح شرط الحرية أو نقصانه
لا يرفع المسؤولية ولا يلغي تبعات الأفعال. لأن الإنسان مسؤول أولا ثم تأتي الحرية
كشرط لمعرفة إرادة الفعل وتبريراته. لذلك تعظم مسؤولية الإنسان بقدر ما يكون حرا،
وتخف کلما نقص شرط الحرية. لكن المسؤولية الإنسانية تبقى دائما قائمة.
تحميل المقالة على شكل PDF هنــــــا