العادات التي تعزز الفعل الإرادي
لنتصور شابا مواظبا على عاداته الحسنة مر بقوم يعرفهم يتعاطون القمار، فدعوه إلى مشاركتهم وتوسلوا بكل الوسائل الإغرائه بما لديهم من استغواء واستهواء، - لكنه أبي وأمتنع بكل عزم وإصرار ، فما كان منهم إلا أن نعتوه بالجهل وعدم التفتح. فلم يرد عليهم، بل تبسم منصرفا ولسان حاله يقول : لي عاداتي ولكم عاداتكم ؛ فأما عاداتي فقا، حررت إرادتي، وأما عاداتكم فقد استعبدت إراداتكم. فكيف تحرر بعض العادات الإرادة وتعززها ؟
1. الخبرة المكتسبة بالعادة والعزم : الإرادة قوة قادرة على العزم واتخاذ أي قرار من دون قيد أو شرط، وهي مجردة عن تأثير الدوافع والبواعث، لكنها ليست مطلقة وعلة أولى ؛ وكما أنها قوة منع وكف توقف التصورات المحركة و تحول دون بلوغها غايتها، فهي أيضا محصلة خبرة أولى تخدمه هي العادة ؛ والشاب في المثال لعله وقع، للحظة قصيرة، بين أمرين متنازعين بين مجالسة الأشخاص الذين يعرفهم، وبين الامتناع عن ذلك ؛ وهنا يأتي العزم والقرار فإن امتناعه قد أتاح للإرادة التواجد وتقرير الفعل، ولو خضع لرغباته لأصبحت أفعاله آلية خالية من الوعي بالعواقب، ولصارت إرادته ضعيفة لا تستطيع أن تواجه رغبات النفس . وسبب انبثاق هذا القرار الحاسم الذي اتخذه وما له من فاعلية قوية، أنه استفاد من الخبرات السابقة أي من الأفعال الاعتيادية ؛ ففي أفعال النية استخدم حرکات آلية أو غير إرادية متصلة بعادات سابقة في غاية الالتزام الأخلاقي والاجتماعي، وفي الأفعال الإرادية الجديدة فإنه فكك الآليات السابقة والحركات اللاإرادية الشائعة عند غيره وراح يسير في طريق مضاد للعادات المضرة حتى يتجنبها . فالفعل الإرادي ليس متولدا من نزعة | بسيطة أو تصور واحد، إنه تغيير الأوضاع القديمة، وتبديل الحركات الآلية السابقة . وكلما كانت الأعمال التي نريد إنجازها أكثر قيمة كانت قوة الإرادة أعظم .
2. العادات الاجتماعية منهل للإرادة : إن الإنسان كائن اجتماعي لا يمكنه أن يعيش بمعزل عن الجماعة، وحياته وسط الجماعة تؤدي به إلى التأثر بها والتأثير فيها، | ويقتضي منه ذلك يتمثل عاداتها وأعرافها وتقاليدها ؛ فأهواؤه ورغباته وحتى أفكاره يستمدها من مجموع المعاني العامة والقواعد والأوامر التي تفرضها قوة الجماعة.
لكن هذا لا يعني أن شخصية الفرد تذوب داخل الآلية الجماعية، وأن إرادته خاضعة لسلطة خارجية، بل إنه في الكثير من الأحيان تكون القواعد الاجتماعية دافعا لتحرير الفرد من ربقة تلك القواعد. وكثير من الشخصيات البارزة في التاريخ كانت نتاجا لضغوطات اجتماعية، وكثيرا ما تحت إرادة الجماعة وتجاوزتها، فقد اتحادی مالیاسی (1564-1642) قواعد مجتمعه و ثار عليها وبرر فكرة دوران الأرض التي كانت محرمة ومنوعة، وكاد أن يقتل بسبب فكرته هذه .
ونخلص من هذا التحليل إلى الإقرار بأن الإرادة هي العامل المحفز لتعلم السلوكيات الاعتيادية، كما أن الإرادة لا تنمو ولا تتطور إلا بالممارسة والتمرين؛ فكلما من الإنسان نفسه على الجهد الإرادي اكسبه ذلك عادات نافعة . وإذا كان الإنسان لا يولد بإرادة قوية كان لابد له من تمرین نفسه على التعلم، فضعف الإرادة أو فقدانها يعود بالدرجة الأولى إلى عدم الممارسة وقلة التمرين. كما أن اكتساب العادات الجديدة يحتاج إلى إرادة قوية، ذلك أن الإرادة تغير الأوضاع القديمة وتبدل الحركات الآلية، والعادات الصالحة تسهل الإرادة وتعين على الاقتصاد في الجهد .