الذاكرة الفردية والذاكرة الاجتماعية
يرى علماء النفس أن فعل التذكر تابع للاهتمامات الخاصة بكل فرد بحسب انفعالاته، وذوقه، قدراته العقلية ؛ فاتجاه الطالب إيجابا نحو المادة التي يتعلمها، والرغبة فيها تزيد من قدرته على تذكرها والعكس، والمخزونات لدى الطالب غير ما لدى الطبيب، وغيرها لدى الفلاح... الخ . ولكن في نفس الوقت فإنه يربط ماضيه وذكرياته بالمؤسسات وبالأعياد والمناسبات التي تعاقبت عليه، فما هو الأثر الذي يمكن للمجتمع أن يتركه على الذاكرة ؟
إن الذاكرة بوصفها أولية، ومركبة، ومتنوعة، تمثل ضمن العمليات الإدراكية كما رأينا - قنوات اتصال تربطنا بالعالم الخارجي، وما ينطوي عليه من مظاهر وأشياء، وهذا الاتصال يترجم إما إلى وعي ومعرفة وإرادة، وإما إلى انفعال عفوي و توازن نفسي . وعلى الرغم من أنه من المتفق عليه أن بعض أنواع الذاكرة تخص الشخش گفعل يتعلق به، وبأحواله النفسية من ميول ورغبات واهتمام من جهة، وبأحواله المادية الفيزيولوجية من جهة أخرى، إلا أن علماء الاجتماع يعتقدون أن التا۔ کر فعل لا يرتبط بالفرد فقط، بل أيضا بالمجتمع الذي يعيش فيه ؛ إذ هو جزء من واقع عام اجتماعي، وهناك مفاهیم و معارف مشتركة بين أفراد المجتمع .
إن المجتمع لا يمكن أن ننظر إليه على أنه حصيلة اجتماع أفراد فقط، بل هو مماطلة مستقلة ومتعالية عن الأفراد، فالظواهر الاجتماعية تمتاز بموضوعيتها، كما پری دور كایم (1917_1858 Durkhein)، وأنها مزودة بصفة الجبر والإلزام، وهي من نتاج العقل الجمعي وتنشأ تلقائيا من اجتماع الأفراد، بل أن سلوك الانسان لا يمكن تفسيره إلا من خلال صورة مجتمعه . وعلى هذا الأساس ذهب هالفاكس (-1877Halbwachs_1945) إلى أن ذكرياتنا ليست حوادث نفسية محضة ، أو مادية ترتبط بالدماغ، بل هي تجديد بناء الحوادث بواسطة الأطر التي يمدنا بها المجتمع، فالآخر هو الذي يدفعنا إلى التذكر لأنني في أغلب الأحيان عندما أتذكر، فإن الغير هو الذي يدفعني إلى ذلك، لأن ذاكرته تساعد ذاكرتي، كما أن ذاکرتی تعتمد عليه . فالتذكر في هذه الأحوال على الأقل يصبح مفهوما ؛ إذ الجماعات التي انتمي إليها تقدم إلي في كل لحظة الوسائل التي أستعيد بها الذكريات شريطة أن التفت إلى هذه الجماعات، وأن اتبني على الأقل مؤقتا طريقتهم في التفكير حين تتجلى في شهادتهم القيم التي يؤمنون بها، والتي تلون الشهادة بألوان الوضعية التي تندرج فيها الشخصية . كما أن الناس الذين يحيون حياة اجتماعية يستعملون کلمات يفهمون معناها ؛ وهذا هو شرط الفكر الجماعي، غير أن كل كلمة تصاحبها ذكريات، وليس هناك ذكريات لا يمكن أن نطابقها بكلمات ؛ إننا ننطق بذكرياتنا قبل استحضارها، واللغة وجملة نسق الاصطلاحات الاجتماعية التي تدعمها هي التي تمكننا في كل لحظة من إعادة بناء ماضينا.
يتبلور تأثير البيئة الاجتماعية في الذاكرة إذن ، في أن الفرد في تفاعله مع بيئته تلاك لا يستجيب لمثيرات مستقلة عن بعضها، وإنما لعدة ضوابط لسلوك الإنسان على ضوء علاقته الصميمة بمجتمعه ؛ أي أنه من خلال طبيعة الموقع الذي يأخذه الإنسان في مجتمعه تتحدد ملامح ذاكرته، والفرد مدين للمجتمع، وهو تلميذه وحنيعته .