الإرادة كإنفعال يعيق التكيف
إن الإرادة محيطة بالحياة النفسية كلها فهي عند الإنسان فعل واع. وهي فوق ذلك ظاهرة معقدة ومتشابكة تنمو مع نموه وتتغير بتغيره، وغالبا ما تمتزج بالانفعال، ولا يحدث تأثير في المناقشة إلا بطريق الانفعالات النفسية . كما أنه لا توجد الإرادة إلا حيث تتعارض النزعات والرغبات الانفعالية. فهي نزعة انفعالية إلى القيام بالفعل بتجاوز الميول والنزعات نتيجة للقرار الذي يتخذ ؛ وهذا القرار الإرادي هو جهد ترکیبي يمنع الفرد من الانقياد إلى نزعة أو هوى، وبالتالي فهي لا تفعل أكثر من أن تقطع التنازع بین الميول والرغبات . وعلى أساس ذلك، يخيل إلينا أحيانا أن الإرادة والرغبة لهما نفس الدلالة، وأنه لا يوجد فرق بينهما إلا في الشدة والدرجة . ونفس الكلام يقال عن الأهواء والتمنيات ؛ فهذه العمليات تعتمد على الشعور الانفعالي بالدرجة الأولى . فهل لهذه المماثلة ما يبررها، كأن نقول مثلا : إن التلميذ في شهادة البكالوريا يتساوی لدیه - بنفس القدر - تمني النجاح، والرغبة في النجاح، وإرادة النجاح؟
1. التمني ( أو الهوى ) ليس من الإرادة :
إن التمني ليس له حدود ولا شروط ؛ فبإمكان الشخص أن يتمنى أي شيء، وقد يكون هذا الشيء قابلا للتحقيق وواقعيا، فيتمنى الطالب النجاح في شهادة البكالوريا بدون أن يعني ذلك أنه سينجح فيها، أو أن يتحصل على تقدير ممتاز ولا يعني الحصول عليه بالضرورة، فليس كل ما يتمناه المرء يدركه ؛ وقد يكون التمني مستحيلا وخیالیا، فيتمنی الشخص أن يكون نهار الشتاء أطول من ليله، أو أن يعود من نحب من الأموات إلى الحياة من جا۔ یاد ؟ إذن فالتمنی هوى اعتباطي ليس له قيود محددة أو ضوابط .
2. الرغبة دافع للإرادة :
أما الرغبة فتكون أشد من التمني، ولكنها أقل من الإرادة ؛ فعندما أقول : أريد وأرغب فلا يؤدي ذلك نفس المعنى، فقد أرغب في السفر ولكنه تمن بدرجة أقوى، والرغبة لا تتحقق إلا إذا تحولت إلى إرادة عمل، ذلك أن الفعل الإرادي فعل قوي يبنى على الشعور وینا۔ مج في الحركة ذاتها لتحقيق بعض من التمنيات والرغبات ؛ ووجود الإرادة قا. يستا. عي وجود الرغبة من حيث أن الرغبة شرط ضروري للفعل الإرادي، وكل إرادة تتضمن شوقا ورغبة هي إرادة مشحونة في جوهرها، لأننا نشعر معها بإمكان حصولنا على الشيء المرغوب فيه بصورة مسيطرة ومؤثرة، ولكن لا تتحول الرغبة إلى إرادة إلا إذا اتصفت بصفة الطلاقة والانسجام مع القيم والإرادة الاجتماعية .
3. الرغبة مثبطة للإرادة :
ومن جهة أخرى، كثيرا ما تكون الرغبة مضادة للإرادة ؛ فقد أرغب في التنزه وأمنع نفسي من هذه الرغبة بلا جدوى فتتغلب رغبتي على إرادتی، وقد أشتهي طعاما في غير أوان الطعام ولا راد عن هذه الشهوة . فالرغبة تولد من رحم میول الإنسان وأهوائه فتسير بلا ترؤ وتبحث دوما عن الإشباع باندفاعية، وعندئذ قد تقف بين الإرادة وتحقيق مطالبها، فلا يحصل التكيف إلا على نحو نسبي، أو لا يحصل تماما .
- وهكذا نستنتج أن الإرادة قد تكون مدفوعة بأهواء وانفعالات ولكن لا تخضع لها، بل إنها تجاهد على كبحها وتعمل على ترويضها، فتكون آنئذ فعالية حرة أساسها العقل والقدرة على التمييز والاختيار . إذ أن الفعل الإرادي الحقيقي يكمن في معارضة الواجب والعقل لنوازع النفس والهوى، أو في وقف الميول على التنازع فيما بينها ؛ فهي جهد يشتمل على حكم تقدير يدفع المريد إلى الاختيار والترجيح الواعي، وعلى حكم تقرير يقتضي كثيرا من العزم والتصميم والمثابرة والتحدي . وبذلك يكون بمقدور الإرادة أن تتجاوز مأزق تسبية التكيف ؛ هذا المأزق الذي تتسبب فية اندفاعية الانفعالات والأهواء في المقام الأول ..