الذاكرة بناء غير مكتمل للماضي
جاء في اعترافات روسو ( J - J . Rousseau 1721- 1778 ) : " .. ولسوف أقول في رباطة جأش : هذا ما فعل وما فكرت، لقد روي في كتابي الطيب والخبيث على السواء بصراحة، فلم أمح أي رديء، ولا انتحلت زورا أي طيب، وإذا كنت قد استخدمت بعض التزويق الفارغ فما ذلك إلا لأملا نقصا نشأ في الذاكرة" . فما تبرير هذا النقص ؟
نلاحظ في النص، وجل النصوص التي تحکی اعترافات العظماء وهم يحررون مذكرات حياتهم، ذلك اللجوء إلى التصرف والإضافة لأجل الربط المنطقي لحوادث الماضي حتى يكون لها معنى، أو لسد النقائص والثغرات التي يسببها ضعف الذاكرة. وهذه الإضافات - التي يزيدها الخيال تنميقا - تجعل الماضي المسترجع عن طريق الذاكرة ليس بالحقيقي المطابق للأصل ؛ وكأن العقل يعيد بناء حوادث الماضي حسب ما يقتضيه الموقف إن إعادة بناء الماضي تتم هنا من خلال عمل تقوم به المخيلة، أي من خلال تذكر الملامح البارزة مع الميل إلى تضخيمها وتشويهها . والتذكر ليس إحياء للحالات السابقة بذاتها، وإنما هو إبداع حالات جديدة مشابهة للحالات الماضية، وكل حالة نفسية حاضرة فهي جديدة بالنسبة إلى ما قبلها سواء كانت عقلية، أم انفعالية ".. فعندما يكون المرء تحت سيطرة الانفعالات تتعزز قدرته على الاحتفاظ بالذكريات وتسلسل الأحداث، بينما يتسرب النسيان تدريجيا الى أحداث محايدة من الناحية الانفعالية تكون أحداث أخرى أقل تأثرا بالنسيان . ومن هذا المنطلق فان ذکری الأحداث الانفعالية تبدو لنا إذن أقوى حدة وأكثر تذكرا "
- وهكذا فإن هذا القصور في عمل الذاكرة يترجم إلى ظاهرتي النسيان وأمراض الذاكرة :
1. آلية النسيان :
كما أن الذاكرة لا تفسر إلا من خلال العمليات التي تتم بها ( ونقصد عملية الاستقبال، فالتثبيت والتخزين، ثم عملية الاسترجاع )، كذلك لا نستطيع أن نتصور النسيان إلا من خلال هذه العمليات ؛ وإذا كان النسيان في ظاهره الوجه السلبي للتذكر، وكان التذكر يعني القدرة على التثبيت والتخزين والقدرة على الاسترجاع، فإن النسيان هو فشل أثناء استقبال المعلومات وفشل في تخزينها وفشل في استرجاعها .
إن النسيان ظاهرة ملازمة لحياة الإنسان، لكنه أحيانا يكون طبيعية وضرورية لحياة الإنسان وللتكيف كما هو سائد عند عامة الناس، وأحيانا أخرى يكون مرضيا إذا ما تجاوز حدوده المعقولة ومستوياته العادية خاصة في تحصيل العلم ؛ إذ ( آفة العلم النسيان ) كما يقال .
2. أمراض الذاكرة :
إن الذاكرة تصاب بأمراض تهدد توازن الشخصية ووحدتها (کالأمنيزيا، الأفازيا )، ومن مظاهرهما نذكر: - صعوبة التذكر : ينشأ عن عجز في تثبيت الذكريات نتيجة مرض يصيب الجملة العصبية يكون مؤقتا أحيانا مثل المصاب بالحمى الشديدة، أو شبه دائم كما في أعراض الشيخوخة.
- فقدان الذاكرة : ويعني اضمحلال الذكريات والعجز عن استحضارها و استرجاعها، وقد يكون الفقدان جزئيا ومؤقتا أي لمدة محددة من الوقت أو البعض الأنواع من الذكريات كالأسماء، أو الأماكن، أو المهن، أو فقدانا لحلقة زمنية من الماضي، كما قد يكون العجز عاما لجميع الذكريات .
- انحراف الذاكرة : وهو مرض الذاكرة الكاذبة ينشأ عن فساد العرفان ، حيث يورد المصاب باستمرار خبرات خاطئة ومحرفة ومشوهة، وهو لا يعلم أنها كذلك
- فرط التذكر : وهو قوة استدعاء الذكريات بجزئیاتها وتفاصيلها من الماضي القريب والبعيد ، ويعرف أيضا بمرض تضخم الذاكرة الشائع خاصة عند المتقدمين في السن.
نستنتج إذن أن هذه الأمراض، فضلا عن النسيان المرضى، تجعل أمراض الذاكرة | وظيفة تعيق التكيف، وتهدد توازن الشخصية ونشاط الإنسان . أما النسيان الناتج عن طبيعة الذاكرة التي لا تستطيع أن تحتفظ بكل ما يمر بها من حوادث فقد رأينا أنه ضروري لحياة الإنسان .