الفلسفة الرواقية
بنى الرواقيون مذهبهم الطبيعي عن الايونيين وعلى الخصوص عن هر قلبیطس ، ونظريتهم الخلقية عن انتستينوس وحكمتهم فيها « ان يعيش الانسان طبقا لطبيعة » والخير المطلق يكون في الفضيلة ولا تنال الفضيلة الا بالنصب والاجهاد . اما رأيهم اللامادي فأخذوه عن ارسطو فنقلوا آراءه في المادة والصورة والحركة والغاية العامة , ويمكن لنا القول ان اله الرواقيين هو « الطبيعة الأرسطوطاليسية» بيد أن طبيعتهم تقوم بذاتها بدون دخل للفعل المجرد.
وبالرغم من اجهاد الرواقيين اليونان في التوفيق بين تلك الأركان المتناثرة وصياغتها في قالب مذهبي موحد فانهم لم يخلوا من الوقوع في التناقض ونشأ عن ذلك اختلاف بين علم الاخلاق وعلم ما بعد الطبيعة ولم يتمكن الرواقيون المتأخرون من تذلیل تلك الصعوبة الاختلافية الا بجعل العلم الثاني تابعة للأول .
المذهب الطبيعي : قسم زینون فلسفته الى ثلاثة أقسام : طبيعية و منطقية واخلاقية : فهو اذن ادخل ما بعد الطبيعة في العلم الطبيعي.
يقول : أن الوجود مادي , والشيء الواقع يتألف من عنصرين غير مفترقين أحدهما منفعل وهو المادة . والآخر فاعل وهو القوة التي تحمل في المادة و تتغلغل في جميع أجزائها فتشكلها وتحركها فلا مادة بغير قوة ولا قوة بدون مادة , فمثال افلاطون ، والفعل المجرد الذي قال به ارسطو هما ذاتان مجردتان اما موجب الاشياء وموحدها فهو موجود فيها وليس خارجا عنها , فالقوة التي تحيا بها المادة في الله حالا في العالم كحلول النفس في الجسد. والله ليس فقط القوة المحركة بل هو أيضا الاحساس والعقل والارادة فجعل لكون وجودة حيا حقيقيا جميع اجزائه متآلفة ومتجانسة . وبتأثير فعله تتحرك جميع الموجودات بنظام مستمر طبقا لقوانين ثابتة ولغايات عقلية , وما الانشقاق والصدفة الا ظواهر كاذبة فكل شيء مقدر لابد من حصوله. وارتباط الوسائط بالغايات كارتباط الاسباب بالنتائج فالقدرة والقدر هما مظهران لإله واحد.
ويذهب الرواقيون إلى أن القوة هي مثال نار هرقليطس أي نسمة مفكرة ملتهبة . والى ان المادة في القوة المنكمشة الهامدة أي النار المنطفئة أو التي على وشك الإنطفاء . فالله اذن الجوهر الوحيد الشامل . وهذه النار الالهية بانقباضها وتمددها تبدع الأشياء كلها وتهلكها على التعاقب . فيعود الكون الى الله ثم يصدر عنه من جديد وهكذا إلى الأبد
المذهب النفسي : جميع الموجودات الخاصة مركبة كالجوهر من عنصر منفعل عديم الحركة ومن أصل فعال حي. فهذا الاصل يجمع الجزيئات الجمادية بعضها ويجعلها متماسكة ، وهو في النبات المادة النطفية التي تنمى البذار وتخرجه عضویا حيا مطابقا لنوعه وهو في الحيوان النفس الحساسة الراغبة . وفي الانسان يصير ذاك الأصل عقلا عالما بذاته ومتضمنا أيضا تلك الخواص الموجودة في الجماد و النبات والحيوان ويدعى حينئذ الآنية ويكون العقل عارفا وفاعلا , ومادة المعرفة الإحساس حيث تتأثر النفس بالاشياء الخارجية فتنقش فيها صورها واشكالها . فيتمثلها العقل ويستحضرها في المخيلة . غير أن بعض تلك الصور تنطبع معها حقيقة ذواتها وتدعى الأشكال المفهومة . وتقاس حقيقتها بقوتها او مفعولها . والعقل يستخلص من جملة أشكال مفهومة رأيا عاما یستبصر به المستقبل ثم تنشأ المعرفة من ترتيب الآراء العامة , وقد شبه زينون الاحساس الأولي بيد مفتوحة والانفعال بید نصف مفتوحة، وتفهم الأشياء بيد مقفولة و مضغوط عليها باليد الأخرى ، والعقل ذاته هو الذي يتدرج في الحالات الأربعة المذكورة .
كذلك يزعم الرواقيون أن الغريزة والإرادة والشهوة حالات ثلاثه لمبدأ واحد. وهذا المبدأ هو العقل الفعال وليس العارف , ففي الغريزة تتنبه القوة المسيرة و تظهر انها تبحث عن ذاتها وفي الارادة تمالك ذاتها وتحكم نفسها. وفي الشهوة تنطلق من عقلها وتضعف , فبينما يقول ارسطو بثلاثة قوى : احساسية وفكرية وارادية . يذهب الرواقيون إلى القول بأصل واحد في الانسان وهو العقل مصدر الفعل والادراك و الحياة ، ومع أن مظاهره متعددة ومختلفة فهو يجتهد دائما في ارجاع تلك الظواهر الى طبيعة واحدة .
المذهب الخلقي : تنحصر أخلاقيات الرواقيين في ان. الفضيلة دون غيرها هي الخير الأعظم و ينبني على هذه النظرية النتائج الآتية :
لا تتعلق الفضيلة بغاية اسمى منها ومخالفة لها . فبينما تقول سائر المذاهب ان الفضيلة تتعلق بغرض ما . سواء كان هذا الغرض هو الله على رأي افلاطون أو السعادة على زعم ارسطو أو اللذة كما ارتأى ابيقور . نرى الرواقيين يزعمون أن الفضيلة تتضمن غرضها في ذاته. فالرجل الفاضل كالطبيعة العامة يجدان خيرهما في ذات عملهما وليس في غاية خارجة عن الفعل ، وعلى ذلك تكون القيمة الاخلاقية للأعمال تبعا لصورتها وليس لماهيتها. وتبعا للنية وليس للنتيجة فالفضيلة تكون في ارادة الخير وليس في عمل الخير (قال ابكتيتوس خيرنا وشرنا بإرادتنا ) واذا كانت الفضيلة دون غيرها هي الخير المطلق فكل ما عداها الحياة والصحة والغني والسمعة والموت والمرض والفقر والعار على حد سوى لا فرق بين الرديء والحسن اذا قصدناها لذاتها " الخير كل الخير في الفضيلة والشر كل الشر في الرذيلة"
تكون الفضيلة في استقامة الارادة وسداد الرأي أي في اتفاقها مع ذاتها. ولذلك تكون واحدة لا تتجزأ وكما أن الخط اما ان يكون مستقيما أولا، كذلك الارادة اما ان تكون سديدة أولا. ولا وسط بين الفضيلة والرذيلة ومن لم يكن حكيما كان مجنونا فلا توجد درجات بينهما.
الاغلاط جميعها متساوية والفضيلة مجموعة لا تتفرد ، بمعنى ان من كان حائزة على واحدة منها حاز جميعها نظرا لاتحادها ببعضها ومن لم يجزها كلها ليس بحائر ولاعلى واحدة منها . فالإنسان اما ان يكون فاضلا في كل شيء أو لا يكون , والحكيم اذن حاصل على كل كمال وعلى تمام المعرفة فهو كامل الصلاح و تام السعادة فيتساوي مع الآلهة بل يفوقها ويسمو عليها لانه أتم كماله بذاته , والفضيلة تجد ثوابها في نفسها ولا معنى للمجازاة في حياة أخرى ولا خلود للنفس .
والنفس على رأي الرواقيين جسم لطیف محاط بغلاف سميك ولذلك لا يترتب على انحلال الجسم انحلال النفس بالضرورة . وبما أن نفس الحكيم أكثر نشاطا و امتدادا فهي تبقى بعد الانحلال البدني متمتعة بنوع من البقاء حتى اذا جاء دور الانحلال العام يسري عليها كما على غيرها قانون الاندماج في النار الالهية - الأبدية فهذه وحدها المتمتعة بالخلود المطلق
تعديل المذهب الرواقي ، وجد الرواقيون المتأخرون أن هذه النظريات لا يمكن العمل بها فأخذ كل في تعديلها بما عن له
فأولا - وضعوا درجات للأشياء التي لا يؤبه بها : فالصحة والحياة والغني والسمعة تطابق الغايات البشرية و تتقارب من الخير ومع انها ليست خيرات في حد ذاتها فهي مفضلة على الأشياء المخالفة للغايات الطبيعية كالموت والمرض والفقر والعار , والاشياء المفضلة بعضها اکثر موافقة للجبلة الانسانية وهي التي دعاها شيشرون وظائف (officia) انسانية كالتغذية والتناسلي وتحصيل العلوم وسياسة العائلة والاعتدال والشجاعة والحكيم من رغب في الأشياء الموافقة ليس حبا بها بل نظرا للجمال و النظام الذين يتلالأن بتأديتها والنية تحول «الموافقات» إلى خيرات حقيقية و بذلك تعدلت الأفعال الخاصة ولم تبق قاصرة على الصورة والنية بل تعدتها إلى المادة .
ثانيا كذلك حصل تعديل في الرأي الغريب القائل بالمساواة بين الأغلاط . فلو كانت كذلك لكان العقاب واحدة للكل والواقع يثبت لنا الuكس . فغلطة واحدة تتضمن جملة أغلاط خذ مثلا من يقتل أباه فانه يجمع بين القتل والعقوق.
ثالثا تعدلت أيضا نظرية « من لم يكن عاقلا فهو مجنون » فجعلوا تفاوت بین العقلاء و الأغبياء واجها لا تتأخص الفضيلة الرواقية في تكييف الحياة كمقتضی العقل د فيحتمل ويمتنع » أي لا يأبه بالآلام ولا يتمرمر من المعاكسات الطبيعية ولا يسعى وراء الخيرات التي ليس في وسعه الحصول عليها.